ملك وكتابة

الداعشية المعاصرة وأصولها السطحية يوسف زيدان

فى منتصف الأسبوع الماضى أصدر الخليفة «الداعشى» المزعوم فتوى عجيبة تقضى بالآتى: «حرق كتب ابن عربى، وتحريم تدريس الفلسفة والتصوف»! فما دلالة ذلك؟ علينا أولاً أن ندرك عدة مسائل محورية إذا أردنا حقاً فهم الظواهر الداعشية على اختلاف أشكالها وأسمائها، من بينها معنى كلمة «فتوى» فى اللغة والاصطلاح الدينى: يقول العلامة ابن منظور فى كتابه الشهير «لسان العرب» إن الفتوى هى التحاكم، وهى تبين المشكل (=الملتبس) من الأحكام، وفى آى القرآن: {يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللهُ يُفْتِيكُمْ}. ونلاحظ هنا أن معنى الفتوى مرتبط بأمرين؛ الأول هو ترجيح أحد الأحكام على غيره عند وقوع الاشتباه والالتباس بين حُكمين شرعيين، والأمر الآخر أن الفتوى هى إجابة عن سؤال وليست مبادرة فقهية من شخص مهما كان، وبالتالى لا يجوز لشخص عالم أو جاهل أن يبتكر من تلقاء نفسه أحكاماً شرعية يسميها «فتاوى» ويسمى نفسه بالتالى «المفتى»! لأنه فى هذه الحالة لا يفتى، وقد يُسمِّى فعله هذا اجتهاداً شخصياً أو اختراعاً شرعياً أو «استهبالاً» ذاتياً، لكنه فى كل الأحوال ليس «فتوى»، لأنه لا يوجد سائلٌ له، وليس هناك التباس ليتفضَّل هو باقتراح فقهى لحل هذا الالتباس. وبالإضافة لذلك، فإن الفتاوى ظنية الثبوت وليست ملزمة بأى حال من الأحوال، لا سيما إن كانت هناك آراء تخالفها. ومن هنا حرص رجال الدين على اختتام فتاواهم بقولهم: والله أعلم، للإشعار بأن هذه الفتوى أو تلك ليست هى «اليقين التام»، وليست الرأى النهائى الملزم لكل مسلم. وقد قام القدماء من فقهائنا بتحديد الشروط الواجبة فى الشخص الذى يتصدر للإفتاء، يعنى الشخص الذى يتولى الإجابة عن الأسئلة الشرعية، فكان من أهم هذه الشروط: العلم والمعرفة، الاشتهار بالفضل بين المعاصرين، الإحاطة بأصول الدين وأسرار اللغة، التلقِّى الفقهى من كبار الأساتذة. فأين تلك الشروط الواجبة على «المفتى» من ذلك الشخص الملتحى، الملفوف بالاسوداد، المسمى عند الدواعش وفى وسائل الإعلام المدمرة للعقول «خليفة المسلمين»؟ وما السؤال الذى رُفع إليه للتحاكم الشرعى فى موضوع مُشكل (ملتبس) حتى يكون قوله بحرق كتب ابن عربى وتحريم دراسة الفلسفة والتصوف فتوى؟ لا شىء من هذا ولا ذاك. فالرجل لم نعرف له أىَّ جهد علمى أو اجتهادات أو مؤلفات منشورة أو مشاركات علمية فى أى فرع من فروع العلم الشرعى (ولا غير الشرعى)! ونحن لا نعرف أحداً سأله عن ابن عربى (المدفون فى سوريا بسفح جبل قاسيون، فى الحىِّ المسمى منذ قرون باسمه سيدى محيى الدين) ولا أحد من أتباعه الدواعش المهووسين يرتقى إلى الدرجة التى تجعله يسأل عن الفلسفة والتصوف، حتى يحق للخليفة المزعوم أن يفتيه ويفيض عليه من علمه الوفير، بالباطل أو بالحق. وبالتالى، فما صدر عن هذا الخليفة المزعوم ليس فتوى، وإنما هو قرار أو أمر أو «استعباط»، ثم تم إضفاء مسحة «الشرعية» و«الشريعة» على كلامه الجاهل بتسميته «فتوى» سرعان ما تناقلتها وسائل الإعلام، ونشط أتباعه فى تنفيذها دون مراجعة. طيب.. لماذا يقرِّر هذا الشخص (الخليفة المزعوم) أو يأمر بحرق كتب شيخ الصوفية الأكبر والولى الأشهر فى التراث العربى بل والإنسانى بعامة الشيخ محيى الدين بن عربى، الحاتمى الطائى، المتوفى سنة 638 هجرية؟ ومن غير الوارد أن يكون أحد الدواعش، ناهيك عن خليفتهم، قد قرأ من كتبه أى شىء أصلاً، وإن كان أحدهم قد تجاوز قدره وقرأ مؤلفات «ابن عربى»، فهو بالقطع لم يفهم من كلامه شيئاً، لماذا؟ لأن عبارات «ابن عربى» رمزية وبالغة الدقة والرهافة، وقد اجتهد كبار العلماء والباحثين والمستشرقين والصوفية أنفسهم فى تفسير ما كتبه «ابن عربى» وتبيان معانيه الرمزية الدقيقة ودعوته العميقة لدين الحب، «العميقة» تلك هى الكلمة المفتاحية. إن الدواعش، عموماً، هم أعداء العمق، وهم لا ينطلقون بعنفهم إلا من أرض الجهل، ولذلك فمن الطبيعى أن يكون عندهم عداء شديد لكل ما هو «عميق». ومن هنا فمن المنطقى أن يكون تراث «ابن عربى»، ويكون التصوف وتكون الفلسفة أعداء للداعشية، وهى الحركة الذابحة الجاهلة المتاجرة بالنساء، ومن الطبيعى أن يسعى هؤلاء وأمثالهم إلى إحراق الكتب اعتماداً على «فتوى» خرقاء كتلك التى تطوَّع بها خليفتهم المزعوم.. ولكن، ومع أن هؤلاء الهوام المسلحين الذين يسمون أحياناً «الدواعش» وأحياناً يتسمَّون بغير ذلك من الأسماء التى ما أنزل الله بها من سلطان، قد سارعوا عقب إصدار خليفتهم المزعوم لفتواه بجمع ما تيسَّر لهم من الكتب وإحراقها علناً على الفور، فإن ذلك لا يعدو كونه مجرد عبث بائس، فليس بمقدور هؤلاء المهووسين أن يقضوا على تراث «ابن عربى» المنشور شرقاً وغرباً. وحتى لو احتل هؤلاء العالم أجمع، وحولوه إلى جحيم من الفتك والذبح والسبى الظالم، فإن «ابن عربى» سيظل دوماً هو الأقوى منهم والأرسخ. لأنه حفر تراثه فى وجدان الإنسانية خلال القرون السبعة الأخيرة، وانشغل به العالم شرقاً وغرباً، وتخصَّص فى دراسته كبار الأساتذة فى العالم؛ من الفرنسى «ميشيل شودكيفيتش» إلى اليابانى «ماساتاكا تاكاشيتا»، مروراً بمن لا حصر لهم من أساتذة مرموقين فى معظم أنحاء العالم. هذا عن الشيخ الأكبر «ابن عربى» وحده، فما بالك ببقية الصوفية الآخرين من أمثال مولانا جلال الدين الرومى والإمام عبدالقادر الجيلانى والأمير عبدالقادر الجزائرى، وغيرهم ممن عاشوا فى الشام والعراق؟ وما بالك بالتراث الفلسفى العظيم الممتد من «طاليس» إلى الفلاسفة المعاصرين، الذين قدَّموا للبشرية أرقى أشكال الفكر الإنسانى؟ هل جهلة «داعش» أو غيرهم من المتخلِّفين بمقدورهم القضاء على هذا التراث العظيم؟ لا والله، فما هم إلا هوام بشرية وظاهرة إجرامية مؤقتة الظهور، ومحتومة الاختفاء مثلما اختفى أمثالهم من قبل، وسيذهب هذا الزَّبَد جُفاءً ويمكث فى الأرض ما به ينتفع الناس. ولأن الدواعش وأمثالهم القدامى والمعاصرين سطحيون، ولا يفهمون من الكلام إلا ما كان سطحياً مثلهم، فسوف يقولون إن تراث «ابن عربى» والصوفية والفلاسفة يستحق الإحراق لأن «ابن تيمية» -الذى يتاجر به الدواعش دوماً «على اختلاف أطيافهم وأسمائهم»- كان يعادى «ابن عربى» والصوفية والفلاسفة! ولن ينتبه هؤلاء الجاهلون إلى أن «ابن تيمية» لم يقل بحرق الكتب، وأنه قال بوضوح إن «ابن عربى» هو أقرب صوفية عصره إلى الإسلام، وأنه امتدح الصوفية فى رسالةٍ له بعنوان «الصوفية والفقراء (إلى الله)»، وأنه شرح كتاب الصوفى الكبير عبدالقادر الجيلانى «فتوح الغيب»! ولو علم الدواعش ذلك لانقلبوا على «ابن تيمية» أيضاً وقرَّروا حرق كتبه هو الآخر، لأن موقفه هذا فيه «عمق» لا طاقة لهم به ولا احتمال، لأنهم أهل السطحية و«السبهللة» و«الاستهبال» (بالمعنى الفصيح للكلمة الأخيرة، وهو اقتناص الفرص). وقد تناولنا فى المقالات السابقة بعض الأسس والقواعد التى تقوم عليها النزعة الداعشية؛ كـ«الطمس، والذبح، والرعب»، وسوف نتناول فى المقالتين المقبلتين بقية هذه الأسس والقواعد، ومنها: كراهية المرأة، الاقتداء باليهود. غير أن صفة «السطحية» سوف تظل هى أهم الأسس والقواعد الداعشية، لأنها الملمح المشترك فيهم قديماً وحديثاً، فـ«الطمس» المتمثل فى هدم الآثار وحرق التراث وطمس الشواهد والشواهق التليدة، هى مجرد أعمال سطحية يستطيع القيام بها كلُّ التوافه من جهلة الناس، أما البناء وتدوين الأصول التى ستصير تراثاً إنسانياً فهو عملُ «المتعمِّقين» فى العلم والمعرفة. و«الذبح» الذى يتباهى به هؤلاء الدواعش كى يروِّعوا بأفعالهم الهمجية ضعاف القلوب والقواعد من النساء، بل ولا يتورَّعون عن الزعم بأن ذبح الآخرين هو «فرض» على كل مسلم! ما هو إلا عمل سطحى، قامت بمثله سابقاً الزوجات المصريات المقهورات من أزواجهن، حين انعدمت أمامهن فرص الخلاص منهم بالمعروف (قبل صدور قانون الخلع)، فقامت زوجاتهم ليس فقط بذبحهم وإنما بتقطيع جثثهم وتعبئتها فى «أكياس البلاستيك»، حسبما يعرف جميع الناس فى مصر قبل سنوات، وجعلوها بعد الصدمة الأولى مُزحةً يتندَّر بها اللاهون فى أحاديثهم المازحة. فما الجديد الذى يفعله الدواعش ويظنون أنه سيحقِّق لهم المراد من الحديث النبوى: «نُصرتُ بالرعب مسيرة شهر»؟! مهما ذبح الدواعش من مسلمى السُّنة وغير السُّنة وغير المسلمين، فإنهم لم يصلوا إلى تلك الوحشية والعتوِّ الجنونى الذى قامت به النسوة المقهورات اللواتى قطَّعن أزواجهن أجزاءً. والذبح والنحر اللذان هما من عمل الجزارين (اللحَّامين) ليسا من الأعمال الخارقة المهولة كما يظن الدواعش، فقد فعل مثل ذلك كثيرون؛ النسوة اليائسات، والمختلُّون نفسياً، والمهووسون من الجنود عند احتدام الحروب، وكل الذين انحطُّوا عن مرتبة الحيوانات. ■ ■ ولأن السطحية ملمح أساسى للدواعش وللجماعات الدينية العنيفة عموماً، لم نشهد خلال التاريخ الطويل للديانات أى أعمال إنسانية مجيدة قام بها أمثال هؤلاء الأراذل من ذلك النوع البشرى «الضعيف» والمنحط عن درجة الحيوان، الذى لم يدرك أن سلب الحياة سهل، وأما الصعب فهو الحفاظ عليها، وهدم البنيان سهل وأما الصعب فهو إقامته، والاعتداء على النساء سهل وأما الصعب فهو احترام الإنسان فيهن. إن الأعمال العظيمة التى تتراكم فيتشكل منها تراث الإنسانية تحتاج معرفة وعمقا وصبرا طويلا وكثيرا من الدأب والمثابرة، بينما النهج الداعشى يبدأ وينتهى بما هو سطحى، وسهل، وبسيط. فالنهج الداعشى «العام» يبدأ بخطوة أولى هى الكراهية، التى هى أسهل وأبسط وأكثر سطحية من الحب، ويستمر بخطوة تالية هى البحث عن تمويل ومصدر تسليح، ليس بالاجتهاد وبذل المجهود وإنما بالسلب والاستيلاء على ما يملكه الآخرون، ثم تتلو ذلك خطوة التنفيس عن الحقد الدفين وإطلاق المكبوت فى قاع النفوس المعتمة والابتهاج بالغل وعمل المجازر، بدلاً من التفهم والإحسان للآخرين وغير ذلك من الأفعال الإنسانية «النبيلة» التى تحتاج مقاومة عميقة للمشاعر السلبية، وهو الأمر الذى لا يقدر عليه الضعفاء من الناس والسطحيون منهم. إن الأفعال المريعة التى تقوم بها «داعش» وشبيهاتها من الجماعات البشرية المنحطة، على بشاعتها المعاصرة، لم تصل بعد إلى الدرجة العالية من الشناعة والانحطاط والهمجية التى عرفناها فى أمثالهم القدماء والمحدثين، فهم لم يقدروا على قتل الناس فى موسم الحج فى مكة، مثلما فعل المسلحون الذين اقتحموا «باسم الرب» الحرم المكى سنة 1981، ولم يذبحوا الناس على جبل عرفة ويخلعوا الحجر الأسود من مكانه مثلما فعل «القرامطة» قبل أكثر من ألف سنة، ولم يقتلوا ثمانمائة ألف شخص مثلما فعل المغول يوم اقتحام بغداد سنة 656 هجرية، ومثلما فعل الكاثوليك مع البروتستانت فى غرب أوروبا. إن الدواعش مهما هلَّل لهم الإعلام المعاصر «التافه» تافهون، ومهما تحدث عنهم المسطَّحون من المحللين سطحيون، ومهما استعملتهم النظم العربية الحاكمة لإخافة الشعوب الجاهلة جاهلون، ومهما طال أمد بشاعتهم المعاصرة زائلون.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى