قصص قصيرة

قط الليل

لا بد وأنه قد كان لكل شخص صديق طفولة قد جلس بجواره في المدرسة الابتدائية أو ربما قد سكن بجواره في الحي نفسه،و لابد أيضا أن هذا الصديق و ذكرياته لا يزالان عالقان بداخل خلايا عقلك إلى الآن ، سواء أكان معك هذا الصديق الآن أم رحل فلا يوجد فرق

كان لي صديق في المدرسة يدعى محمد أو كما يناديه الجميع ” قط الليل ”
محمد عبارة عن فتى أسمر البشرة ذو نظرات ماكرة ورأس حليق مضحك كالبيضة ، كان هذا الفتى مميزا بطريقة غريبة عن بقية التلاميذ في المدرسة،مميزا بطريقة غريبة جدا

أثناء إحدى الحصص همس لي محمد

-ياسر هل تشتهي تناول قطعة من الكعك بالشوكولاتة عندما ينتهي دوام المدرسة
فأجبته و قد شعرت بالضجر
-محمد هل يمكنك أن تغلق فمك رجاء ! إنني أحاول أن أفهم درس الرياضيات الآن !
فأجاب بإستهزاء شديد و هو يهز رأسه هامسا
-و ما فائدة الرياضيات أيها الأحمق؟، هل هي مسلية أكثر من تناول الكعك ؟ لا يمكن للرياضيات أن تجلب لك السعادة أيها الأحمق ! المال و الطعام من سيجلبان لك ذلك فقط !




-محمد أغلق فمك

المعلمة صارخة:- ياسر و محمد غادرا الفصل أيها الفاشلان!

في الواقع لم أكن فاشلا في دراستي يوما ولكن تصرفات محمد دائما ما تجعلني أعاني في المدرسة و خارجها

أذكر مرة عند عودتنا من المدرسة أنه قد قال لي

-ياسر ما رأيك أن نتناول طعام الغذاء في المطعم اليوم!
كنت سعيدا جدا فسألته متلهفا
-يا إلهي ! أحقا ؟ ..أعني هل تملك النقود يا محمد لأنني لا أحمل معي شيئا ، و لا حتى قرشا واحدا !

-لا عليك يا صديقي إنك تسير مع محمد الآن ،لا داعي للقلق
سر خلفي فحسب و اطمئن !

فدخلنا إلى المطعم القريب من المدرسة و طلبنا وجبة برجر مع علبتي مشروب مثلجة ! الجدير بالذكر أن محمد قد طلب أغلى صنف من البرجر ! كنت مندهشا جدا و لكنني لم أكترث للأمر كثيرا خاصة و أن الأمر يتعلق بطعام المطاعم

وبينما كنا نتناول الطعام دخل علينا زميلنا في المدرسة علي و دون أي مقدمات” و أعني هنا أنه لم يلق علينا حتى السلام” و جلس و قال إنه يريد تناول الطعام معنا ، كنت أترقب ردة فعل صديقي محمد و لكن سرعان ما تعجبت لتصرفاته فقد كان على غير عادته إذ سمح إلى علي بالجلوس ، لا و بل قد طلب له وجبة برجر كاملة مع البطاطا المقلية و الكاتشب و المشروب الغازي

بدا محمد على غير عادته !, فقلت في نفسي يبدو أنه قد جن حقا ! أو ربما لا ، ليس كذلك ، بل إنه قد قرر أخيرا ترك عاداته السيئة في المكر والاحتيال ،في الواقع لم يكن محمد سوى طفل لم يتجاوز الثالثة عشرة، و لكن تفكيره قد فاق عقله بسنوات كثيرة ، وعندما أسأله عن سبب أفعاله يجيب دائما بأنه يمكننا التوبة و طلب المغفرة من الله

و ما إن مرت بضع دقائق حتى غمز محمد لي بعينه الصغيرة بينما كان علي منهمكا في تناول وجبته و قال سأذهب لكي أغسل يدي ، ففهمت ما يحدث بسرعة ونهضت و قلت أنا أيضا سأذهب , وضع محمد يده على كتف علي و قال له على مهلك يا صديقي حتى لا تصيبك التخمة

لم نذهب إلى الحمام كما قال محمد بل خرجنا من الباب الخلفي للمطعم …و عندها صاح محمد عاليا و كأنه أحد أفراد الهنود الحمر ! فلنركض بأقصى سرعة يا ياسر

في اليوم التالي ،جاء علي إلى المدرسة و عينه اليسرى قد تلونت باللون البنفسجي حيث يبدو أن صاحب المطعم قد قام بضربه لعدم دفعه ثمن الطعام ، فقال له محمد في الفصل

لذلك كان عليك منذ البداية أن لا تأتي إلى المطعم دون دعوة أو نقود و لكن أتعلم يا صديقي ! إنني حزين لأجلك كثيرا فما رأيك أن نذهب لقطف ثمار المانجو اليوم بعد الدوام ثم قام بتقبيل جبين علي و قال بعد أن بدا متأسفا للغاية

إنني آسف يا صديقي أعدك بأنني سأصلح الأمور اليوم
كانت مهمة قطف المانجو أشبه بعملية نزع الألغام من ناحية الحذر لأننا نتسلق سورا عاليا لمنزل كبير بجوار المدرسة والمشكلة لا تكمن هنا فحسب بل في مالك المنزل نفسه, لأنه رجل قاس لا يرحم أي فتى يقبض عليه متلبسا وهو يقطف ثمار المانجو من شجرته
فتسلقنا معا ويبدو أن ثمار المانجو لم تنضج بعد فما زالت خضراء ولكننا واصلنا القطف ووضع الثمار في حقائبنا بحذر شديد
عندها لمح علي و محمد ثمرة مانجو صفراء ناضجة فصاح محمد إنها لي دعوها لي و لكن علي كان الأقرب لها فقطفها ووضعها بداخل حقيبته

لم يبد محمد أي انزعاج و ظننت لوهلة أنه لن يكترث للموقف،ولكنه سرعان ما قام بركل علي ركلة جعلته يسقط داخل المنزل ويصرخ من شدة الألم! عندها صاح محمد بعد أن قفز خارج المنزل كالقط ” لا عجب بتسميته بقط الليل فهو يضاهي القطط براعة عندما يتعلق الأمر بالركض أو القفز و المكر أيضا”

ياسر اقفز بسرعة سيأتي مالك المنزل! وبعد أن ابتعدنا مسافة عن المنزل سمعنا صوت صراخ زميلنا علي قد ازداد فأدركنا أن مالك المنزل قد قبض عليه
فسألت محمد لماذا؟
فأجاب دون أي مبالاة




– لأنه لم يرضى بأن أكون شخصا صالحا معه يا صديقي!

كان محمد الفتى السيئ المضحك،فدائما ما يحاول الغش في الامتحانات،ويسرق من المتاجر ويقول بأنه ليس عدلا أن يأخذ الأغنياء كل ما يريدون ونحن لا
كان يبرر كل تصرف بأننا سنطلب المغفرة لا تقلق يا صديقي لن يحاسبنا الله،كان صديقي المحتال يبيع أقراص ألعاب فيديو لا تنفع،وكان يدخل إلى مطعم المدرسة ليأكل خلسة ثم يهرب

أذكر مرة أننا أقمنا حفل نجاح وكل محتوياتها قد كانت عبارة عن مسروقات جلبها محمد فسألته لماذا
فأجابني دون أي اكتراث كعادته

– إنه حفل نجاحنا يا صديقي وكما تعلم فإنها أول مرة انجح فيها في حياتي ! أعني صحيح أنني قد نجحت بمعجزة و بعلامات متدنية ولكنني على الأقل سعيد الآن أكثر من زميلنا حسن الدي راح يبكي لأنه قد تحصل على الترتيب الثاني بدل الأول،ولا أملك النقود أيضا فما العمل في رأيك،أرجوك لا تفسد الحفل يا عزيزي فقد فعلت كل هذا لأجلنا فقط

كان دائما يطمئنني بمقولة إننا سنطلب المغفرة في يوم من الأيام
أذكر مرة أيضا أننا قد نسينا كتابة الفرض المنزلي وكانت معلمة مادة التاريخ صارمة جدا فسألت محمد في حيرة ما العمل؟
فنظر إلى الأعلى وقال لا عليك وجدت الحل
وبعد الاستراحة عندما حان موعد حصة التاريخ وجد جميع التلاميذ أن كراساتهم الخاصة بفروض التاريخ قد مزقت إلى قطع صغيرة بما فيهم أنا ومحمد,فلم يشك أحد في أمر محمد خاصة مع نظراته البريئة التي كان يتظاهر بها للمعلمة و أيضا حتى إنه كاد يبكي أمام المعلمة خاصة عندما قال بأنه قد سهر الليل بأكمله يكتب فرضه المدرسي

لا أعلم لماذا قمت بمصادقة ذلك الفتى المخادع حتى الآن,ربما لأنه كان دائما ما يجد الحلول لأصعب المشاكل التي تمر بنا

بعد عدة سنوات توفى والد محمد فغادرت بقية عائلته الحي ولم أعد أعلم شيئا عنه حينها
وبعد مرور عدة سنوات علمت من أحد أقرباءه بأنه في أحد السجون بسبب تهمة لسرقة سيارة
قال لي ذلك الشخص بأنه دائما ما كان يسأل زواره في السجن. ما هو حال صديقي ياسر؟ و هل أكمل دراسته أم لا ؟

لذلك في أحد الأيام قررت الذهاب إليه لزيارته و لكن سرعان ما علمت أن محمدا قد مات في السجن بسبب المرض
فقد كان يعاني من الربو منذ صغره

بالنسبة لي الآن كلما تذكرت صديقي المخادع محمد تمنيت شيئا واحدا فقط وهو بأنه قد طلب المغفرة من الله في السجن قبل أن يرحل عن هذا العالم , وعندما ذهبت إلى منزل محمد للتعزية أعطاني أخوه الأكبر رسالة قال إنها من محمد كتبها باسمي قبل وفاته…
وعندما غادرت المنزل قمت بفتح الرسالة لأجده قد كتب

“تلك السيارة اللعينة لم أسرقها يا صديقي ياسر صدقني ! وأيضا قد طلبت المغفرة وأنا واثق تمام الثقة بأن الله قد غفر لي”

كان في قلب محمد جزء صغير نقي خال من الشوائب ، كان طيبا في أعماقه رغم تصرفاته التي تظهر العكس في أغلب الأحيان ، و أعتقد أن هذا ما مكنه من طلب المغفرة في لحظاته الأخيرة



اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى