قصص قصيرة

رمادي

عندما كنت صغيرا في مرحلة التعليم الابتدائي.. و عندما كنت ألعب أنا و زملائي لعبة (حرب البقاء) داخل الفصل دخلت علينا معلمتنا وهي غاضبة جدا وقد صرخت بقوة والعروق بارزة في حنجرتها “كضابط صارم في البحرية الإيطالية ” و هي تقول عليكم بتغيير مقاعدكم الآن وأنا من سيقوم بوضع هذا التغيير و متابعته وقتها لم يكن الأمر محل إثارة اهتمام بالنسبة لي ؛ فقد كنا نستحق أكثر من ذلك بكثير لأننا قمنا بتحويل الفصل إلى حلبة للمصارعة حتى قالت المعلمة “ولد و فتاة ” سيجلس على كل مقعد ولد و فتاة وما إن أنهت معلمتنا هذه الجملة حتى أصبت بدوار شديد مصحوب بألم في المعدة . لقد شعرت و كأنني قمت ببلع معجون أسنان ، لقد تدفق الأدرينالين في جسدي بكميات كبيرة حتى إنني عجزت عن الحركة تماما و لم استطع حتى بلع ريقي . و كنت أفكر فقط في قصة “فتاة” ! يا إلهي :- إنني لا انسجم أبدا مع هذه المخلوقات إطلاقا لا أعلم لماذا و لكنني ذو شخصية معقدة لحد كبير ، بدأت المعلمة بوضع كل ولد مع فتاة بحسب الترتيب حتى حان دوري . عندها أغلقت عيني الصغيرتين بقوة و كأنني أحد المجرمين أمام ساحة المحكمة و هو ينتظر حكم الإعدام أو السجن المؤبد . وبعد لحظات قليلة صدر القرار “علي و زينب” !(زينب : فتاة بيضاء ذات عينين عسليتين لامعتين و قصة شعر قصيرة ) لم اعلم السبب الذي منعني حتى الآن من الصراخ في وجه المعلمة لأنني لم أَطق تلك الفتاةَ أبدا و في الواقع إنني أعتقد أنها هي كذلك لا تَطيقني ، كانت من النوعية الأنيقة جدا و المتكبرة ، النوعية التي تمسح فمها بمنديل قماشي غال الثمن بعد تناول وجبة الاستراحة “أما أنا فحتى الأوراق كانت تفي لي بالغرض” جلسنا معا لأول مرة و لم أكن أريد النظر إليها أبدا لأنني كنت أراها الفتاة المتعالية ، لكن ؛ ما كان يثير انتباهي حقا هو تلك الأغلفة التي كانت تغلف بها كتبها و أيضا تلك الملصقات الوردية الجميلة التي تزين بها دفاترها . استمر وضعنا ثَلاثة أيام دون أن يحدث إحدانا الآخر إلى أن حان موعد حصة الرسم و عند الحديث عن الرسم” فأنا من أولئك الناس الذين لا يجيدون شيئا في الرسم” حتى إنني ممن يرسم “الشجرة مثل الشمعة” ، طلبت منا المعلمة موضوعا و هو أن نرسم المظاهر الجمالية للطبيعة في فصل الربيع ، و قد كان رسمي سيئا جدا لذلك شعرت بالإحباط بسرعة و لم أواصل الرسم بتاتا و عندما رفعت راسي وجدت أن كل من في الفصل منشغل في الرسم “عدا أنا طبعا ” عندها أتاني الفضول لأرى ما الذي ترسمه زينب…و عندما استرقت النظر إلى رسمتها يا إلهي :- إنها فنانة حقيقية ، أخذني جمال رسمها لأسرح بعيدا لم أصدق أن فتاة في مثل عمرها تستطيع الرسم بالطريقة هذه ، لم أنبث بحرف واحد بل أصبحت أتأمل رسوماتهما ، ظلت ترسم الأشجار بطريقة رائعة جدا و كذلك المنازل كانت في قمة الروعة كذلك . لم أحاول أن أكمل الرسم أبدا بل بقيت هادئا أتأمل رسمها الخيالي فقط ، حتى انتبهت لي عندها قمت بإدارة وجهي بسرعة و قمت بإمساك قلمي الرصاص لكي أتظاهر أنني منشغل بالرسم أنا أيضا عندها قالت لي.. -هل أعجبك الرسم ؟ لم أجب سريعا و قد ارتبكت قليلا و في نفس الوقت لم أرد الإجابة بنعم “رغم أن رسمها كان رائعا جدا” و اكتفيت فقط بقول -أجل لقد أعجبتني طريقة رسم الأشجار ! -حقا ! ؟…لقد قامت بتعليمها لي أختي الكبيرة حسنا سأقوم بتعليمها لك إن أردت ذلك أمسك قلمك فحسب… صدمت من معاملتها اللطيفة لي !حتى إنني بدأت أتساءل في داخلي “هل كانت تكرهني هذه الفتاة حقا ؟ “لا أعتقد هذا لقد هيئ لي هذا الشيء فقط ، كانت أكثر من متواضعة و كل ما كان من حواجز بيننا كان من صنع مخيلتي فقط ، الجدير بالذكر أيضا أنها لم تتوقف عن الضحك عندما رأت مذكرة الرسم الخاصة بي ، في الحقيقة لقد ضحكت معها أنا أيضا على نفسي حتى بدأ يحدق بنا كل من في الفصل ، كانت الرسومات التي أرسمها في حال يرثى لها حقا” لأنني كنت أقوم برسم الطيور المحلقة في السماء و كأنها الرقم ثلاثة مقلوبة.




بدأنا الانسجام شيئا فشيئا ، لقد كنا نتحدث في البداية أثناء حصص الرسم فقط و كنا نتحدث عن الرسم بصفة عامة و سألتها ذات مرة عن لونها المفضل ، أجابت بأنه الرمادي لقد كانت تعشق اللون الرمادي بشكل غريب جدا و عندما سألتها لماذا الرمادي ؟ فقالت لي إنه لون الإبداع و الغموض إنه لون الفن و ستدرك أنت ذلك أيضا عندما تتأمل غيوم السماء وقت مغيب الشمس ، بعد ذلك وجهت لي السؤال نفسه عن لوني المفضل فأجبتها بأنني أميل إلى اللون الأزرق.. بعد أيام أصبحنا نتحدث خلال جميع الحصص و عن كل شيء تقريبا ، أصبحنا نثرثر كثيرا حتى عن أتفه الأشياء ، أذكر مرة أنني أخبرتها بأن أخي الأصغر قد كسر لي كوبي المفضل و أخبرتني هي أيضا أن جدتها سقطت أثناء صعودها درج منزلهم ، انسجمنا كثيرا بعد ذلك لدرجة أنها في أحد الأيام أحضرت معها دفتر الرسم الخاص بأختها الكبرى لتريني إياه ، انبهرت به كثيرا ، كانت جميع رسوماتها بلا ألوان و اللون الرمادي وحده يزين رسومات أختها ، كان رسم أختها خرافيا حيث يبرز مظاهر لعالم آخر لم نشاهده . كنت أتحدث مع زينب أكثر من أي شخص آخر ؛ لدرجة أنني أصبحت أميل إلى الرسم أشد الميل و بدأت القيام بادخار ثمن طعام الاستراحة الذي كانت تعطيه لي أمي لأشتري دفترا غالي الثمن ، و أقلام تلوين ذات جودة عالية و ذلك لأتعلم الرسم لا أكثر لم تكن زينب فتاة متعالية كما هيئ لي و لم تكن مزعجة أبدا ؛ كانت في غاية الطيبة و الدليل واضح من خلال ابتسامتها الساحرة و المفعمة بالحياة “إننا أحيانا نحكم على البشر الذين لا نعرفهم من خلال مظهرهم الخارجي فقط و هذا في الواقع يعتبر أكبر خطأ فادح قد يقع فيه أي شخص في هذا العالم ” شارفت المدرسة على الانتهاء و في آخر حصة رسم قالت لي بابتسامتها المعتادة.. -حسنا سأقوم في العطلة برسم لوحات رائعة لكي تراها السنة القادمة ! فقلت لها بحماس كبير حسنا و أنا أيضا سأخرج كل ما لدي لأرسم شيئا رائعا و اعد أيضا بأنني لن أرسم الطيور كالرقم ثلاثة… طوال فترة العطلة كنت أحاول رسم شيء جميل حقا وبعد عدة محاولات و قبل بداية العام الدراسي الجديد بأسبوع واحد تمكنت أخيرا من رسم شيء رائع بالفعل لم أستعمل الألوان أبدا لأنني أردت أن أحاكي رسم أختها قليلا ، عندما انتهت العطلة وحان موعد ذهابي لأول يوم دراسي ، وضعت دفتر الرسم القديم وسط حقيبتي الجديدة و ذهبت للمدرسة و كان بالتأكيد أول شخص أبحث عنه عندما دخلت هو “زينب” بحث في كافة أرجاء المدرسة في كل زاوية و لم أجدها أبدا ؛ لكنني وجدت ابن عمها الذي يدرس معنا في نفس المدرسة فقلت له -محمد أين زينب ؟فقال لي وهو ينظر إلى الأرض -لقد صدمتها شاحنة أثناء عودتها للمنزل من المتجر…لقد ماتت زينب ! لم انظر إليه فقد كنت مصدوما جدا ، لم أستطع التعبير بأي شيء أبدا! لقد هشم هذا الخبر قفصي الصدري بمطرقة من فولاذ لم أعلم حتى ما الذي علي فعله لم أستطع الوقوف في الساحة فجلست ولم أستطع الحديث مع أحد فبقيت وحيدا… عدت إلى المنزل وفتحت دفتر الرسم الخاص بي و بقيت أبكي وحدي في غرفتي حتى ابتلت الورقة و فسدت اللوحة التي قمت برسمها تماما و احتجت فترة زمنية طويلة جدا لأخرج من تحت تأثير هذه الصدمة… لقد كنت أحتفظ بإحدى رسوماتها التي قد أهدتها لي في الثاني و العشرين من فبراير أي يوم ميلادي ، الذي أهدت فيه إلي تلك الورقة التي بها رسم لطائر النورس بعد أن قامت باقتلاعها من دفترها الخاص لأنها كما قالت لي وقتها أنها لم تجد شيئا آخر تقدمه لي ، كانت في الواقع أثمن شيء قدم إلي و كلما نظرت إليها تذكرت تلك اللحظات الرائعة التي كنا نعيشها معا…لم أنس تلك الفتاة أبدا خاصة تلك الابتسامة البريئة و الضحكة العفوية ، لم انسها أبدا فأنا أدعو لها كلما رأت عيناي لوحة رائعة و كلما نظرت إلى كل ما هو رمادي مر على الحادثة ما يزيد عن عشر سنوات بيد أني أستطيع استرجاع كل حلقات الذاكرة لأتخيل كل ما حدث بالتفصيل و كأنه حدث البارحة فقط.. و قد أسميت هده القصة بالرمادي لأنه لونها المفضل ! أو بمعنى أدق لأنه لوننا المفضل !.. ماتت زينب و لكن ذكرياتها الرمادية ما تزال حتى هذه اللحظة على قيد الحياة محفورة داخل خلايا عقلي الرمادية .



اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى